
إعداد: رحمه حمدى
في خطوة يختلف عليها البريطانيون وقّعت حكومة رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر والرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأسبوع الماضي على “اتفاق الازدهار التكنولوجي”، في محاولة لوضع المملكة المتحدة في الصدارة العالمية لسباق التكنولوجيا. بينما تُرّوج لندن وواشنطن للاتفاق بصفته “نقلة حضارية”، تثور تحذيرات من كبار الخبراء والسياسيين من أنه قد يكون مقايضة خطيرة للازدهار الاقتصادي قصير المدى بالاستقلال التكنولوجي والسيادي على المدى البعيد.
ترى الحكومة البريطانية في هذا الاتفاق “بوابة المملكة المتحدة إلى المستقبل”، كما وصفه وزير العلوم والتكنولوجيا في بيانه. وتتمحور حجتهم حول عدة نقاط جوهرية:
· الاستثمار غير المسبوق: تعلن الحكومة عن ضخ استثمارات مباشرة تتجاوز قيمتها 40 مليار جنيه إسترليني من كبرى الشركات التكنولوجية الأمريكية، مثل:
· مايكروسوفت: 22 مليار جنيه لبناء أقوى حاسوب خارق في البلاد مخصص للذكاء الاصطناعي.
· إنفيديا: 11 مليار جنيه لنشر 120 ألف وحدة معالجة رسومية (GPU) لتغذية البنية التحتية للذكاء الاصطناعي.
· جوجل: 5 مليارات جنيه لمركز بيانات ضخم.
· خلق الوظائف والفرص: يؤكد المؤيدون أن المشاريع الناتجة عن الاتفاق ستخلق عشرات الآلاف من الوظائف عالية المهارة، وتضع بريطانيا في مركز الخريطة العالمية للابتكار.
· تعزيز التحالف الاستراتيجي: يُصور الاتفاق على أنه “ترسيخ للعلاقة الخاصة” في عصر التكنولوجيا، مما يمنح بريطانيا أفضلية الوصول إلى أحدث ما توصلت إليه العقول الأمريكية.
كوابيس التبعية وفقدان السيادة
في الجانب المقابل، يرى فريق من الخبراء والمراقبين أن الاتفاق يحمل في طياته “مخاطر وجودية” على مكانة بريطانيا كدولة مستقلة. كما هناك امتعاض واضح في الصحافة البريطانية وواضح أيضا أنه ليس مجرد رد فعل عاطفي، بل قلق استراتيجي عميق من أن الحكومة، في سعيها لتحقيق مكاسب اقتصادية سريعة وإنجازات إعلامية، تفرط في أعز ما لديها: أمنها القومي، واستقلالها التكنولوجي، ومكانتها كقوة عالمية مستقلة. يرون أن المقايضة خطيرة: استثمارات أمريكية وعقود ضخمة مقابل السيادة الرقمية والاستقلال الاستراتيجي. وتكمن مخاوفهم في:
- الخوف على الهوية والاستقلال الوطني (ما بعد بريكست)
بريكست كان في جوهره قراراً يستعيد فيه البريطانيون سيادتهم من بروكسل. المفارقة الصارخة هنا أن الحكومة نفسها التي قادت بريكست توقع الآن اتفاقيةً يرى كثيرون أنها تسلم السيادة التكنولوجية والأمنية لواشنطن. الصحف المحافظة والمؤيدة لبريكست خاصةً ترى في هذا تناقضاً صارخاً. فبدلاً من أن تصبح “بريطانيا العالمية” المستقلة، قد تتحول إلى ولاية تكنولوجية أمريكية، وهو ما يمس كبرياء الوطنيين.
- مخاوف أمنية عملية ومباشرة
هذا ليس مجرد اتفاق تجاري عادي. الصحف التي تناولت التحليل الاستراتيجي (مثل الغارديان والإيكونوميست) تطرح أسئلة حرجة:
· البيانات: أين ستُخزن البيانات الشخصية للمواطنين البريطانيين والبيانات الحساسة للحكومة؟ إذا كانت على سحابة أمازون أو مايكروسوفت، فمن يتحكم بها ويحميها من الوصول غير المصرح به بموجب القوانين الأمريكية؟
· الأنظمة الحساسة: كيف سيتم دمج الذكاء الاصطناعي الأمريكي في أنظمة الرعاية الصحية (NHS) أو حتى في الاستخبارات العسكرية؟ هل سيكون للبريطانيين رقابة حقيقية على هذه الأنظمة أم سيكونون رهائن لخوارزميات وسياسات شركات أمريكية؟
- الخوف من “الاستعمار الرقمي” الاقتصادي
الصحف الاقتصادية (مثل الفاينانشال تايمز) تركز على هذا الجانب. الاتفاقية قد تخلق “وظائف من الدرجة الثانية” وتجعل بريطانيا سوقاً مستهلكة للتكنولوجيا الأمريكية، بدلاً من أن تكون منافساً أو شريكاً متساوياً.
· استنزاف العقول: الاستثمارات الضخمة قد تجذب أفضل المواهب والعلماء البريطانيين للعمل في فروع الشركات الأمريكية في لندن، مما يضعف الجامعات والشركات الناشئة المحلية.
· تبعية البنية التحتية: عندما تبني “إنفيديا” و “مايكروسوفت” البنية التحتية للذكاء الاصطناعي في بريطانيا، تصبح البلاد معتمدة عليها بشكل كامل. أي تغيير في سياسات هذه الشركات أو أي صراع مستقبلي مع واشنطن قد يعطل الاقتصاد البريطاني.
- القلق من شخصية ترامب نفسه والتقلبات الأمريكية
الصحافة البريطانية، بغض النظر عن توجهها، تدرك جيداً أن دونالد ترامب سياسي غير متوقع. فهناك عدم ثقة، وقعت الاتفاقية مع ترامب، ولكن ماذا لو خسر الانتخابات المقبلة؟ هل ستحترم إدارة ديمقراطية هذه الصفقة بنفس الشكل؟
المصلحة الأمريكية أولاً هوشعار ترامب المعروف “America First” يجعل البريطانيين يشعرون بأنهم طرف ضعيف في الصفقة. هم يتساءلون: هل هذه الصفقة لازدهار بريطانيا حقاً، أم هي لازدهار الشركات الأمريكية على حساب بريطانيا؟
- العزلة عن الجيران الأوروبيين
بينما تبنى فرنسا وألمانيا وإيطاليا تحالف “يوروستاك” (Eurostack) لخلق بدائل أوروبية مستقلة للتكنولوجيا الأمريكية، اختارت بريطانيا الانضمام للمعسكر الأمريكي. هذا يزيد من عزلة بريطانيا بعد بريكست ويُفوت عليها فرصة أن تكون جسراً بين أوروبا وأمريكا، بل قد يحولها إلى منافس مباشر لأوروبا نيابة عن المصالح الأمريكية. لا شك أن حجم الاستثمارات سيخلق دفعة قوية للاقتصاد البريطاني ويطور بنيته التحتية الرقمية بشكل ملحوظ. وجود عمالقة التكنولوجيا على الأراضي البريطانية سيتيح نقل خبرات لا تقدر بثمن للكوادر المحلية. لكن تظل هناك أسئلة مصيرية بلا إجابات واضحة:
· أين السيادة؟ من يملك القرار النهائي في المشاريع المشتركة الحساسة؟ هل سيكون للبريطانيين كلمة الفصل في التطوير المستقبلي للأنظمة المدمجة في قطاعاتهم الحيوية؟
· ماذا بعد ترامب؟ الاتفاق وُقّع مع إدارة رئيس معين. ماذا لو تغيرت الإدارة الأمريكية وتغيرت سياستها؟ هل توجد ضمانات تحمي بريطانيا من التقلبات السياسية في واشنطن؟
· أين الصناعة البريطانية؟ هل ستهيمن الشركات الأمريكية على المشهد لدرجة تخنق فيها الشركات الناشئة والمتوسطة البريطانية، بدلاً من أن تدفعها للنمو؟ مستقبل معلق بين وعد الازدهار وكابوس التبعية
يترك “اتفاق الازدهار التكنولوجي” بريطانيا على مفترق طرق تاريخي. من ناحية، هناك وعد لا يمكن تجاهله بطفرة اقتصادية وتكنولوجية تضع البلاد في مقدمة الركب. ومن ناحية أخرى، هناك كابوس محتمل يتمثل في فقدان السيطرة على مقدراتها الرقمية وأمنها القومي.