
إعداد: رحمه حمدى
تشهد الضفة الغربية المحتلة تحولًا جوهريًا في هيكل الحكم الإسرائيلي، حيث تعمل حكومة بنيامين نتنياهو على نقل الصلاحيات الإدارية من القيادة العسكرية إلى السلطات المدنية، في خطوة تُعتبر تمهيدًا لضم المنطقة بشكل أحادي الجانب. يأتي ذلك ضمن مساعٍ طويلة الأمد لترسيخ السيطرة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية، متجاهلةً القوانين الدولية والانتقادات العالمية.
أطلق كبار المشرعين والوزراء في حزب الليكود بزعامة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو حملة يوم 2 يوليو لحث رئيس الوزراء على ضم الضفة الغربية قبل نهاية الدورة الصيفية للكنيست في 27 يوليو، مدعين أنه يجب عليه الاستفادة من “الإنجازات التاريخية” للحرب ضد إيران.
وفي رسالة وقعها 15 وزيرا من حزب الليكود في الحكومة الحالية، بالإضافة إلى رئيس الكنيست أمير أوحانا، كتب المشرعون أنه “بعد الإنجازات التاريخية التي حققتها دولة إسرائيل في مواجهة “محور الشر الإيراني” والمتعاطفين معه، يجب إكمال المهمة والقضاء على التهديد الوجودي من الداخل، لمنع مذبحة أخرى في قلب البلاد”.
و كما نشرت “تايمز أوف إسرائيل: “أضاف السياسيون أن “الشراكة الاستراتيجية والدعم والمساندة من الولايات المتحدة والرئيس دونالد ترامب جعلت الوقت مناسبا للمضي قدما الآن، وضمان أمن إسرائيل لأجيال”.
من الاحتلال إلى التوسع
تعود جذور الصراع إلى حرب 1967، عندما احتلت إسرائيل الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان. وفي ذلك الوقت، التزمت إسرائيل أمام الأمم المتحدة بالحفاظ على الوضع القائم حتى إبرام معاهدات سلام. لكنها سرعان ما خرقت هذا الوعد بضم القدس الشرقية عام 1967 ومرتفعات الجولان لاحقًا.
في 22 نوفمبر 1967، ناقش مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قرارًا أصبح أهم توجيه للمجتمع الدولي بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني منذ خطة تقسيم فلسطين عام 1947. تناول النقاش نتائج حرب 1967، التي انتصرت فيها إسرائيل على جيرانها العرب، فاستولت على الضفة الغربية والقدس الشرقية من الأردن، وقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء من مصر، ومرتفعات الجولان من سوريا.
في مجلس الأمن، قال وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك، أبا إيبان: “سنحترم ونحافظ بشكل كامل على الوضع المنصوص عليه في اتفاقيات وقف إطلاق النار حتى تُتبع بمعاهدات سلام بين إسرائيل والدول العربية تُنهي حالة الحرب”.
لم يكن إيبان دقيقًا تمامًا، فعندما أدلى بتصريحه، كانت إسرائيل قد طبقت قانونها على القدس الشرقية من جانب واحد؛ وستفعل الشيء نفسه بعد 15 عامًا بضم مرتفعات الجولان رسميًا.
وعلى مدار نصف القرن الماضي، أدى التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية إلى تعميق السيطرة الإسرائيلية وجعل الانسحاب العسكري يبدو مستبعدًا بشكل متزايد.
على مدار العقود، توسعت المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، حيث يقيم اليوم نحو 700 ألف مستوطن، بينهم 230 ألفًا في القدس الشرقية، وفق منظمات حقوقية. يعيش هؤلاء تحت القانون الإسرائيلي الكامل، بينما يخضع الفلسطينيون للحكم العسكري، مما يكرس نظامًا يُوصف بالفصل العنصري من قبل منظمات محلية ودولية، وفقًا لمنظمة “السلام الآن”، وهي منظمة إسرائيلية غير حكومية
ويعيش المستوطنون الإسرائيليون، الذين يتمتعون بكامل الحقوق المدنية والسياسية، ويرتبطون ارتباطًا وثيقًا بالبنية التحتية والموارد الإسرائيلية، جنبًا إلى جنب مع ملايين الفلسطينيين الخاضعين للحكم العسكري الإسرائيلي، والذين لا يملكون أي سلطة على كيفية حكمهم.وقد شبّهت العديد من المنظمات غير الحكومية الإسرائيلية والدولية الرائدة هذا النظام المتشعب بالفصل العنصري.
التغيير البيروقراطي: تمهيد للضم
بدأت الفجوة بين أقوال إسرائيل وأفعالها في الضفة الغربية تختفي تدريجيا في عام 2017 عندما بدأ مسؤولون في حكومة نتنياهو آنذاك مناقشة خطط ضم أحادي الجانب لأجزاء من الضفة الغربية. وفي ديسمبر من ذلك العام، أصدر حزب الليكود الحاكم تحت زعامة نتنياهو قرارا يلزم أعضاءه البرلمانيين بالسعي نحو ضم كامل للضفة الغربية. لكن كان واضحا للناخبين المؤيدين لهذا القرار أنه قرار مرحلي مؤقت، ولا يمكن تنفيذه على الفور بسبب المعارضة الدولية المتوقعة.
ثم، في الفترة التي سبقت انتخابات إسرائيل عام 2019 وظهور ما عرف باسم صفقة القرن التي طرحها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب – والتي تضمنت بنودا تسمح بضم إسرائيلي جزئي للضفة الغربية – صرح نتنياهو في عدة لقاءات إعلامية أنه سيدفع نحو تطبيق السيادة الإسرائيلية بشكل تدريجي على المنطقة. وأوضح نتنياهو أنه ناقش مع إدارة ترامب فكرة الضم بموافقة دولية، خاصة موافقة الولايات المتحدة.
استمر نتنياهو في تكرار هذا الموقف عدة مرات منذ ذلك الوقت. وتشير الحكومة الجديدة التي شكلها العام الماضي بالتحالف مع أحزاب استيطانية متطرفة إلى ما أسمته الحق الحصري للشعب اليهودي في كامل أرض إسرائيل في وثيقة برنامجها الحكومي. أما اتفاق التحالف بين حزب الليكود وحزب الصهيونية الدينية المتشدد بقيادة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، فينص بشكل واضح على أن رئيس الوزراء سيعمل على تطوير وتعزيز سياسة تهدف إلى تطبيق السيادة الإسرائيلية على ما يسمى بيهودا والسامرة. ويهودا والسامرة هما المصطلحان التوراتيان اللذان يستخدمهما اليمين الإسرائيلي للإشارة إلى المناطق التي تشكل الضفة الغربية.
هذه الخلفية السياسية تساعد في فهم قرار حكومة نتنياهو الأخير بإجراء تغييرات على هيكل الحكم الرسمي في الضفة الغربية، حيث تم نقل العديد من الصلاحيات الإدارية من القيادة العسكرية إلى القيادة المدنية. ومن المتوقع أن تؤدي هذه الإجراءات إلى إزالة أي شكوك متبقية حول عزم إسرائيل على ضم الضفة الغربية بشكل كامل، ولو بشكل قانوني تدريجي.
في أواخر فبراير الماضي، وقع سموتريتش، المعروف بدعمه لأفكار التفوق اليهودي، اتفاقية مع وزير الدفاع يوآف غالانت تقضي بنقل مجموعة من الصلاحيات الحكومية في الضفة الغربية من القائد العسكري للمنطقة إلى سموتريتش شخصيا. والجدير بالذكر أن سموتريتش يشغل بالإضافة إلى منصبه كوزير للمالية، منصبا آخر في وزارة الدفاع. وقد تم الاتفاق على هذه الترتيبات ضمن بنود التحالف بين حزب الليكود وحزب الصهيونية الدينية.
وبموجب هذا الاتفاق، سيتمكن سموتريتش من تعيين موظفين مدنيين في مناصب رسمية داخل الإدارة العسكرية، بما في ذلك منصب نائب رئيس الإدارة المدنية الجديد، وهي الهيئة العسكرية المسؤولة عن الشؤون المدنية للمستوطنين الإسرائيليين والمستوطنات في الضفة الغربية. كما سيكون لسموتريتش صلاحية تعيين المستشارين القانونيين لهؤلاء المسؤولين.
تداعيات خطيرة: نهاية حل الدولتين
وفقاً لـ” رويترز” يُعتبر مشروع E1، الذي يهدف إلى بناء مستوطنات تستوعب مليون مستوطن، أحد أخطر الخطط الإسرائيلية. إذا نُفذ، سيقسم الضفة الغربية إلى نصفين، مما يجعل أي دولة فلسطينية مستقلة غير قابلة للحياة. وصرح سموتريتش بأن الهدف هو إنهاء فكرة الدولة الفلسطينية.
في مارس 2025، أدانت الأمم المتحدة التوسع الاستيطاني، مؤكدةً أنه يشكل جريمة حرب. وحثّ المفوض السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك المجتمع الدولي على التحرك، لكن إسرائيل تواصل تجاهل هذه الدعوات، مدعيةً روابط تاريخية ودينية بالأرض.
يواجه العالم تناقضًا صارخًا في تعامله مع انتهاكات القانون الدولي. فبينما يُدان الضم الروسي لشبه جزيرة القرم، تُغض الطرف عن سياسات إسرائيل التوسعية. يُنظر إلى هذا الصمت كإضعاف للنظام الدولي القائم على القواعد، وإشارة خطيرة لقادة آخرين بأن الضم بالقوة قد يمر دون عقاب.
ختامًا، تُجسد الخطوات الإسرائيلية الأخيرة تحولًا من الاحتلال إلى الضم الفعلي، مما يهدد بإدامة نظام الفصل العنصري ويفاقم معاناة الفلسطينيين. بينما يتصاعد العنف الاستيطاني ويزداد التهجير القسري، يبقى السؤال: هل سيبقى المجتمع الدولي صامتًا؟