
إعداد: رحمه حمدى
تشاهد فيلما في السينما، تشعر فجأة برغبة جامحة في تناول الفيشار ورشفة من مشروب غازي. لا تعرف السبب، لكنك تطلب ما تريد. قد تبدو هذه اللحظة اعتيادية، لكنها في الحقيقة كانت محور أكبر فضحية تسويقية في القرن الماضي.
في عام ١٩٥٧، ادعى خبير التسويق الأمريكي جيمس فيكاري أنه قام بتجربة غير مسبوقة. أثناء عرض أحد الأفلام في دار سينما، قام بتوجيه جهاز يعرض جملة قصيرة على الشاشة بسرعة خاطفة، أسرع من أن تلتقطها العين الواعية، تقول الجملة: كل فيشار واشرب كوكا كولا. بعد تكرار التجربة، زعم فيكاري أن مبيعات المنتجين قفزت بشكل مذهل، مما يثبت أن العقل اللاواعي يمكن اختراقه وتوجيهه.
ما حدث بعد إعلان النتائج كان أكثر إثارة من التجربة نفسها. انقلبت الدنيا رأسا على عقب. هاجمت الصحف فيكاري واتهمته بالاحتيال وانتهاك أخلاقيات المهنة وحرية الإنسان، حتى أن الأمر وصل إلى جلسات استماع في الكونجرس الأمريكي. الضغط كان شديدا لدرجة جعلت فيكاري نفسه يتراجع عن كل تصريحاته وينكر نجاح تجربته، بل ووصل به الأمر إلى قبول اتهامات له بالاحتيال.
السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا كل هذا الهجوم على تجربة تسويقية فاشلة في النهاية؟
السبب ببساطة هو أن الفكرة نفسها، نجحت أم فشلت، هي فكرة مرعبة. لقد أضاء فيكاري مصباحا أحمر حول إمكانية وجود أدوات للتحكم في العقل الجمعي للبشر دون علمهم أو موافقتهم. لقد لمست تجربته وترا حساسا للغاية متعلقا بأخطر ما يمكن انتهاكه: حرية إرادة الإنسان.
اليوم، لم نعد نحتاج إلى أجهزة تعرض رسائل خاطفة في دور السينما. لقد أصبحت التقنيات أكثر تطورا واختراقا بشكل أعمق. لقد انتقلنا من فكرة التسويق تحت العتبي إلى هندسة القرار تحت العتبي.
إنها خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي التي تعرف ما يثير اهتمامك وخوفك ورغباتك أكثر منك شخصيا. هي منصة الفيديو التي تقترح عليك المحتوى تلو الآخر، لتبقيك في حالة من التلقين المستمر. هي الإعلانات التي تطاردك في كل موقع تزوره لأنك ذات مرة بحثت عن حذاء رياضي.
هذه المنصات لا تبيع لك منتجا فحسب، بل تبيعك أنت كمنتج للمعلنين، وتشكل بطريقة خفية جدا طريقة نظرتك للعالم، لما هو صحيح وما هو خاطئ، لما هو مرغوب وما هو منبوذ.
في عالم السوشيال ميديا:
لاحظ كيف يقترح عليك إنستغرام منتجاًبعد دقائق فقط من حديثك عنه مع صديق. النظام لا يتجسس على مكالماتك، لكنه يستخدم مليارات نقاط البيانات ليتنبأ بما قد تريده. عندما توقف scrolling في منصة مثل تيك توك على مقطع معين لثانية أطول، تبدأ الخوارزمية في بناء صورة لاهتماماتك العميقة، ثم تغرقك بمحتوى مشابه يعزز قناعاتك ويشكل رأيك بشكل صامت.
في تجربة التسوق:
موسيقى هادئة في قسم المنتجات الفاخرة تدفعك للبقاء وقتاًأطول وإنفاق مزيد من المال. روائح الخبز الطازج والقهوة عند مدخل السوبر ماركت تحفز مشاعر الراحة والجوع، مما يزيد من مشترياتك impulsively. ألوان العلامات التجارية لم تختار عبثاً، الأحمر لتحفيز الطاقة والإثارة، الأزرق لبناء الثقة والهدوء.
في الأخبار والإعلام:
عندما تتصفح موقعاًإخبارياً، لاحظ ترتيب المواضيع. الخبر الموضوع في منتصف الصفحة، بصورة مصغرة بلون هادئ، يمرر رسالة خفية بأنه أقل أهمية من الخبر الموضوع في الأعلى بصورة كبيرة ولون صارخ. حتى حجم الخط ونوعية الصور المستخدمة تحمل إشارات تؤثر على كيفية تفسيرك للحدث.
في المطاعم والطعام:
المقاعد المريحة والإضاءة الخافتة في مطاعم الوجبات السريعة الحديثة ليست للرفاهية،بل لتبقيك فترة أطول وتستهلك أكثر. الأطباق الدائرية والفضية تعزز من حلاوة الطعام، بينما الأطباق الداكنة والزرقاء تقلل الشهية. حتى أسماء الأطباق على القائمة تستخدم كلمات مثل “منزلية” أو “جدة” لتحفيز مشاعر الألفة والطعم الأصيل.
في الترفيه والمحتوى:
مشهد سريع في مسلسل ما يظهر علبة مشروب غازي،أو إضاءة خافتة لعلامة سيارات معينة. هذه ليست مصادفة، بل منتجة بدقة وتباع للمعلنين لتمرير رسائلهم دون أن تدرك أنك تشاهد إعلاناً. حتى الشخصيات التي تلبس ملابس ماركات محددة هي جزء من استراتيجية تسويقية خفية.
الخطر الحقيقي ليس في التأثير على قراراتك الشرائية، بل في قدرة هذه الإشارات على تشكيل قناعاتك السياسية، الاجتماعية، وحتى هويتك الشخصية، دون أن تدري أنك تتغير. اليقظة وحدها لا تكفي. أنت بحاجة إلى فضول دائم لتسأل: لماذا أحب هذا الشيء؟ من المستفيد من هذا الفكر؟ ومن يدفع ثمن اختياري؟