أحمد صبري شلبي يكتب: سيناء أرض المصريين وقدسيتهم.. تحديات تتجاوز التاريخ والجغرافيا

في الخامس والعشرين من أبريل، يوم تتوهج فيه الذاكرة الوطنية، تستعيد مصر في قلوب أبنائها ذكرى تحرير سيناء الغالية. تلك الأرض الطاهرة، التي ارتوت بدماء الأبطال وصمدت كالجبال في وجه العدوان، عادت إلى حضن الوطن بعد كفاح مرير وتضحيات جسام.
لم تكن سيناء مجرد تراب استرددناه، بل كانت نبضًا من الروح عاد ليخفق في قلب مصر، وصفحة ذهبية سطرتها مصر بعرق أبنائها ودم شهدائها وإيمانها الراسخ.
سيناء في وجدان المصريين
منذ فجر التاريخ، تجذرت سيناء في وجدان المصريين كرمزية تتجاوز حدود الجغرافيا. إنها معبر الأنبياء، ومسرح تجليات السماء، والبوابة الشرقية التي لطالما حملت عبء الدفاع عن أرض الكنانة. لم تكن سيناء يومًا مجرد صحراء قاحلة، بل كانت ولا تزال نبعًا للروح المصرية الأصيلة، وخزانًا للبطولات المتواصلة، من لهيب معارك التحرير إلى تحديات معركة التنمية.
معركة وعي وصمود بقوتي مصر العسكرية والدبلوماسية
لم يكن تحرير سيناء مجرد انتصار عسكري، بل كان ملحمة وعي وإيمان راسخ بحتمية النصر. فمن مرارة نكسة 1967 إلى عنفوان نصر أكتوبر 1973، مرورًا بمفاوضات السلام، تجسدت ملحمة متكاملة أثبتت للعالم أن الكرامة المصرية لا تقبل المساومة، وأن الأرض لا تسترد إلا بتضافر الإرادة الشعبية مع القيادة الرشيدة.
لقد جسد الجيش المصري بطولة أسطورية في استعادة سيناء المباركة، ولا يزال يحميها حتى اليوم، ليس فقط كمقاتل على الجبهة، بل كحامل لرسالة الوطن وحارس لهويته، مستمرًا في معركته ضد الإرهاب ومشاركًا بفاعلية في تنميتها وتحقيق أمنها.
وبدبلوماسية حكيمة، نجحت الدولة المصرية في تحويل الانتصار العسكري إلى مكاسب سياسية راسخة، مؤكدة أن قوتها الناعمة لا تقل إصرارًا عن قواتها المسلحة، واستطاعت أن تعيد سيناء كاملة بالطرق القانونية والشرعية، في مشهد يمثل قمة الرقي في حل النزاعات سلميًا في التاريخ الحديث.
سيناء في مواجهة تحديات اليوم… وضرورة الحفاظ عليها وسط تغيرات الإقليم
ففي ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها الإقليم، تزداد أهمية سيناء كموقع استراتيجي فريد، خاصة بعد ما كشفته أحداث ما بعد 7 أكتوبر من محاولات لإعادة رسم خريطة المنطقة على حساب الجغرافيا والهوية. وقد ظهرت دعوات مشبوهة للتهجير أو إعادة التوطين في سيناء، في إطار مخططات تهدف للنيل من السيادة المصرية، أو تحويل أرض الفيروز إلى بديل قسري لصراعات أخرى.
وسط هذه الأجواء الملبدة بالتوترات، تبقى سيناء حائط الصد الأول لمصر، ودرعها الحامي في وجه التهديدات الإرهابية والمخططات الدولية. فالمحاولات التي سعت لاختراق سيناء لم تكن عشوائية، بل جزء من خطة ممنهجة لضرب قلب الوطن وتحويله إلى ساحة صراع. إلا أن الدولة المصرية، بوعيها الكامل لحجم الخطر، تعاملت بحسم ويقظة. فكما استعصت سيناء على الاحتلال، استعصت كذلك على الإرهاب والمشاريع المشبوهة.
اليوم، تُختبر عزيمة المصريين من جديد، وحتمية الحفاظ على سيناء لم تعد خيارًا، بل قدرًا لا مفر منه. فالمعركة لم تعد فقط معركة حدود، بل معركة وجود وهوية وقرار سيادي لا يقبل القسمة.
قدسية سيناء في الأديان السماوية
تتبوأ سيناء مكانة روحية فريدة في صميم الديانات السماوية جمعاء. ففي هذه البقعة المباركة، كلم الله نبيه موسى عليه السلام، وعلى أرضها تجلى سبحانه وتعالى للجبل، فارتفع قدره وقدسيته إلى يوم الدين.
ففي “البقعة المباركة” كما وصفها الذكر الحكيم، تجلى عز وجل على جبل الطور وكلم نبيه الكريم تكليمًا. إنها لحظة عظيمة اصطفى الله فيها سيناء لتكون منبرًا للوحي ومحرابًا لرسالة التوحيد الخالدة، وشاهدًا على عبور الرسالة السماوية إلى الأرض، ومسرحًا مقدسًا لا يقل شأنًا عن أقدس بقاع العالم.
وقد خلد القرآن الكريم هذه القدسية في آيات بينات، منها: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ}، {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}، {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ}.
الاحتفال بالذكرى… رسالة للأجيال الجديدة
الاحتفال بتحرير سيناء واجب وطني، لأنه لا يُخلّد فقط ذكرى النصر، بل يغرس الوعي في نفوس الأجيال التي لم تعش لحظة العبور أو تعرف معنى أن تُسترد الأرض بالدم. هو درس تربوي في الوطنية، ورسالة إلى كل مصري صغير بأن ما بين يديه من سلام هو ثمرة تضحيات عظيمة.
معركة البناء لا تقل عن معركة السلاح
كان تحرير سيناء صفحة البداية، لا النهاية. فالمعركة اليوم اتخذت أبعادًا أخرى، هي معركة التنمية والبناء والاستثمار الشامل. سيناء، التي كانت رمزًا للتحدي والصمود، تستحق أن تصبح منارة اقتصادية وسياحية وزراعية مزدهرة. إن بناء المدارس والمستشفيات وشبكات الطرق الحديثة لا يقل أهمية ووطنية عن عبور القناة ورفع العلم شامخًا.
ختاما
لا… ولن يتم التنازل عن شبر أرض أو حبة رمل من سيناء.
لأنها ليست مجرد أرض، بل عهد ودم وتاريخ، ومَن يفرط في سيناء، يفرط في قلب مصر.
حفظ الله مصر وجيشها.