مقالات

أحمد صبري شلبي يكتب: الموقف المصري من القافلة في ظل تداعيات الضربات الإسرائيلية – الإيرانية

كلما اشتدت الأزمة في غزة، تتصدر مصر المشهد من جديد. ليس بحثًا عن دور، بل لأنها لم تغب يومًا عن جوهر القضية الفلسطينية. لم تكن مصر هامشية أبدًا، بل ظلت في مقدمة الداعمين بالعمل والتضحية. فمنذ الأزل، دفعت مصر من دماء أبنائها ومقدراتها، واحتضنت الملف الفلسطيني باعتباره قضية أمن قومي وواجبًا إنسانيًا. اليوم، ومع الجدل المثار حول “قافلة الصمود”، يصبح من الضروري قراءة الموقف المصري بعيدًا عن المزايدات السياسية والشعارات الجوفاء.

في هذا المقال، نقدم قراءة موضوعية للموقف المصري من “قافلة الصمود”، موضحين الفرق بين دعم مصر التاريخي المسؤول للقضية الفلسطينية، وبين محاولات تمرير أجندات خارج الأطر القانونية، في ظل تصعيد إقليمي خطير أعقب الضربات الإسرائيلية لإيران فجر 13 يونيو 2025.

أولًا: مصر دولة قانون ذات سيادة

تلتزم الدولة المصرية، شأنها شأن أي دولة ذات سيادة، بقوانينها ودستورها ومؤسساتها الشرعية في تنظيم أي فعالية على أراضيها، خاصة تلك المرتبطة بقضايا أمنية أو سياسية حساسة. من هذا المنطلق، يجب أن يتم أي تحرك جماعي مثل “قافلة الصمود” وفق ضوابط وإجراءات تضمن عدم استغلاله أو انحرافه عن أهدافه المُعلنة. لا يمكن القبول بأن تتحول أراضي الدولة إلى ساحة للفوضى أو منصة دعائية قد تُستغل لإرباك المشهد أو تصدير صورة مغايرة للواقع.

ثانيًا: الأمن القومي المصري مسؤولية لا تقبل المساومة في ظل التوترات الإقليمية

تعيش المنطقة اليوم حالة من التوتر المتصاعد، لا سيما في أعقاب الضربات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت مواقع داخل الأراضي الإيرانية فجر اليوم الجمعة، بما ينذر بتطورات إقليمية خطيرة قد تطال أثرها كل دول الجوار. في مثل هذا المناخ المحتقن، يصبح التعامل مع أي نشاط عابر للحدود أو ذو طابع تعبوي – حتى وإن حمل شعارات إنسانية – مسألة بالغة الحساسية. ومن صميم واجبات الدولة المصرية الحفاظ على أمنها القومي بكل أبعاده: الحدودية، والسياسية، والمجتمعية. وفي ظل ما تشهده المنطقة من اضطرابات وتدخلات وموجات تضليل إعلامي، فإن من حق السلطات المصرية، بل من واجبها، أن تتخذ ما تراه مناسبًا للحفاظ على استقرارها وتماسك جبهتها الوطنية.

ومع كامل الاحترام والتقدير للدول التي سمحت بعبور القافلة من أراضيها، فإن الدولة المصرية لا يمكنها أن تعتمد أو تثق كليًا في الإجراءات الأمنية المتخذة في منح التصاريح، أو في فحص المشاركين والحمولات. ذلك أمر يمسّ السيادة مباشرة، ويهدد الأمن الوطني، خاصة في وقت تتداخل فيه الأبعاد الإنسانية مع أخطار خفية وغير تقليدية. ولا يحق لأي جهة – داخلية كانت أو خارجية – أن تفرض على مصر أسلوبًا بعينه في التعاطي مع قضايا ترتبط ارتباطًا مباشرًا بأمنها القومي.

ثالثًا: مصر في مرمى المزايدات… وأين بقية الدول؟

المثير للدهشة في الجدل حول “قافلة الصمود” هو أن المزايدات توجه حصريًا نحو مصر، بينما تصمت الألسنة عن مواقف الدول التي لم تفتح أبوابها، ولم تتحرك شعوبها، ولم تتحمل يومًا تكلفة احتضان القضية الفلسطينية سياسيًا أو إنسانيًا أو لوجستيًا. لماذا مصر وحدها هي من تُحاسب على مواقفها، رغم أنها لم تغلق حدودها في وجه المساعدات، ولم تتخلَّ عن دورها في الوساطة ووقف إطلاق النار؟ بل ظلت — رغم كل التحديات — البوابة الوحيدة التي يتنفس منها أهل غزة في أوقات الحصار والدمار.

رابعًا: دعم القضية الفلسطينية ثابت

لا خلاف على أن دعم مصر للقضية الفلسطينية ثابت لا يتزحزح، وهو موقف راسخ أصيل لا يرتبط بموسمية الأحداث أو بتقلبات السياسة. ومثلما دعمت مصر الشعب الفلسطيني على مدار عقود، فإن مبدأ دعم الأشقاء العرب في قضاياهم العادلة حاضر وثابت في وجدان الدولة المصرية، سواء كانت القضية في فلسطين أو في أي قطر عربي آخر.

لكن هذا الدعم لا يعني التخلي عن التنظيم أو السماح بخرق السيادة الوطنية تحت ستار التضامن. فالمساندة لا تكون بالصخب الإعلامي، بل بالتنسيق الرسمي الفعّال، والالتزام بضوابط الدولة المستضيفة.

وهنا لا يمكن القول إن الخلاف مع “قافلة الصمود” هو خلاف على جوهر المبادرة أو نُبل الهدف، بل هو اعتراض على محاولات فرض الرأي والتصرف خارج الأطر القانونية، والمزايدة غير المنصفة على موقف دولة كانت وما زالت في الصف الأول من الداعمين لفلسطين.

خامسًا: أين كانت الضغوط على الحكومات الأخرى؟

لعل السؤال الأهم الذي يفرض نفسه هنا: لماذا لم نرَ من يقودون هذه المبادرات يمارسون ضغطًا مماثلًا على حكوماتهم لاتخاذ مواقف حقيقية وعلنية من العدوان على غزة؟ لماذا لم نرَ اعتصامات أو قوافل تنطلق من دول تملك إمكانيات هائلة، ولم نسمع عن مطالبات بتسليح المقاومة أو كسر الحصار من عواصم أخرى؟ يبدو أن مصر وحدها يُراد لها أن تدفع الكلفة السياسية والإنسانية، فيما يكتفي الآخرون بالتصفيق أو التوبيخ من بعيد.

سادسًا: حين يصبح العمل الإنساني مطية للاستغلال السياسي ولنا في إيران عبرة

في ضوء ما تم تداوله من تقارير اعلامية بشأن تجنيد جهاز الموساد الإسرائيلي لوحدات كوماندوز داخل الأراضي الإيرانية، تمهيدًا للضربات الجوية التي نُفذت فجر الجمعة 13 يونيو 2025، يتأكد مرة أخرى أن المنطقة تعيش حالة من السيولة الأمنية والاستخباراتية، حيث تختلط الأدوار وتُستغل الفضاءات المفتوحة لاختراق الدول وتوجيه الرسائل الخفية. هذا الواقع يُحتّم على الدولة المصرية التعامل مع أي تحرك على الأرض — مهما كانت شعاراته إنسانية — بمنتهى الحذر والصرامة.

فقد أثبتت السنوات الأخيرة أن بعض الفعاليات التي اتخذت طابعًا إنسانيًا تم توظيفها سياسيًا بطرق لا تخفى على أحد. ومن ثم، فإن من الطبيعي، بل من واجب الدولة المصرية، أن تتعامل مع أية مبادرة جماهيرية أو إعلامية بقدر عالٍ من التدقيق الأمني والحيطة، دون أن يعني ذلك الطعن في نوايا المشاركين أو أهدافهم المُعلنة. فحسن النية، وحده، لا يكفي ما لم يُرافقه التزام بالإجراءات القانونية، واحترام للسيادة، وتنسيق كامل مع الجهات الرسمية.

خاتمة: مصر في موقعها الثابت… لا تحتاج إلى شهادة من أحد

مصر لا تزايد، ولا تساوم، ولا ترفع شعارات للاستهلاك الإعلامي. هي الدولة التي فتحت أبوابها للفلسطينيين حين أغلقت الدنيا في وجوههم، وهي التي ما زالت تفتح معابرها للمساعدات، وتستقبل الجرحى، وتستضيف المفاوضات، وتدفع من هيبتها ومواردها من أجل قضية تعتبرها قضية أمن قومي قبل أن تكون مجرد تضامن إنساني. موقفها من “قافلة الصمود” ليس خروجًا عن هذا السياق، بل امتداد لسياسة ثابتة ترى أن الدعم لا يُختزل في مشهد أو شعار، بل يُبنى على الفعل الجاد والمسؤولية السيادية.

حفظ الله مصر وجيشها وشعبها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى