
تنويه هام قبل قراءة المقال:
هذا المقال لا علاقة له بالزاوية الدينية، ولا يناقش العقيدة أو الإيمان. إن كنت ستقرأه من هذا المنظور، فأنا أنصحك ألّا تكمل.
ما يلي تحليل اجتماعي–إعلامي–سياسي لظاهرة حديثة، ونستخدم المفهوم الديني هنا فقط في سياقه الرمزي لا أكثر.
منذ بداية الخلق والإنسان لديه ميل غريب إلى تقديس شيء يصنعه بيده، ثم يُسلم إليه جزءًا من مشاعره وعقله كأنه المنقذ أو المرجعية. صنم من حجر، صنم من خشب، صنم من ذهب… كلها نُسخ متكررة من نفس الفكرة. ومع تغيّر الزمن، لم تنته الأصنام، لكنها فقط انتقلت من المعابد القديمة إلى الشاشات الحديثة. اليوم نحن أمام أصنام رقمية، تُصنع على مرأى ومسمع الجميع، وتظهر على صفحات ترتيبها يحكمه “تريند” عابر، أو خوارزمية ذكية، أو حملات ترويجية مصطنعة.
من صنم الحجر إلى صنم الشاشة
في الماضي، كان الرجل ينحت الصنم بيده ثم يظن أنه قادر على دفع الضر عنه أو منح الخير. اليوم يتكرر المشهد ذاته بصورة مختلفة:
يصنع الناس هالة حول شخص ما—مؤثر، صانع محتوى، أو حتى شخصية بلا أي قيمة فكرية أو علمية—ثم يلتصقون به وكأن قربهم منه يمنحهم قيمة إضافية.
ناس تصنع شهرة، ثم تُصدّق أنها نتيجة استحقاق.
ناس ترفع شخصًا فوق حجمه الطبيعي، ثم تُعامله كمرجعية اجتماعية.
ناس تُهلل، وتُصفق، وتكرر المحتوى نفسه لا لقيمته… بل لأن الجميع يفعل ذلك.
وهكذا تتشكل الأصنام الرقمية.
صدمة السقوط حين يتكلم الصنم
وهنا تتجلى المفارقة المؤلمة:
حين ينطق الصنم برأي يخالف هوى أتباعه،
أو يخرج منه موقف أخلاقي ضعيف،
أو ينكشف سطحه الفكري،
يبدأ التراجع، ثم الانسحاب، ثم الهجوم عليه… وكأن المشكلة كانت في الصنم، بينما الحقيقة أن المشكلة كانت فيمن صنعه.
هنا يحدث المشهد الأكثر واقعية اليوم:
شخص يحصل على رد مختصر من أحد الأصنام—”تمام”، “شكراً”، أو مجرد “Seen” —فيأخذ لقطة للشاشة فورًا وينشرها بفخر. ثم يبدأ بإعادة نشرها في كل مكان كإنجاز اجتماعي.
بل يتطور الأمر إلى صورة عابرة بجانب الصنم، ملتقطة في مناسبة عامة، والثانية لا يعرف فيها الأول أصلًا.
يضعها صاحب الصورة كواجهة لحساباته، ويكتب تعليقات توحي بأن هناك علاقة قوية أو معرفة شخصية.
والمفارقة هنا صادمة:
أنت تفخر بأن شخصًا لا يعرف اسمك ابتسم في وجهك للحظة. وترفع قيمتك بالاستناد على قيمة ليست لك وليست مُعترف بها أصلًا.
اذن هي ليست إعجابًا… بل محاولة لصنع مكانة اجتماعية من ظلّ شخص آخر.
حين تتحول الشاشة إلى مصدر فكر
الأصنام الرقمية لم تعد مجرد وجوه على الشاشة، بل أصبحت مصدرًا للفهم والاتجاه والتفسير.
تعليق عابر صار تحليل سياسي.
رأي سريع أصبح مرجعية فكرية.
وذلك يحدث لأن الهالة أصبحت أكبر من الحقيقة.
معركة الوعي: إسقاط الهالة لا الشخص
معركة الوعي ليست حربًا على الأسماء ولا حربًا على الشهرة.
هي معركة مع المبالغة، مع الهالة، مع الاندفاع الجماعي نحو التبجيل.
الفكرة ليست أن نكسر الأصنام، بل أن نُظهر أنها مجرد صور على شاشة،
قيمتها لا تأتي منها… بل ممن صنعها.
تحذير أخير للقارئ قبل أن ينتهي المقال:
هذا المقال لا يناقش الدين ولا يقترب من العقيدة، ولا علاقة له بالحلال والحرام، بل يناقش صناعة الأصنام الرقمية كظاهرة إعلامية–اجتماعية–سياسية مرتبطة بمعركة الوعي.
وحين ندرك أن من صنع القيمة قادر أن يستردها، وأن ما يرتفع بقرار جماعي يمكن أن ينخفض بقرار جماعي، تبدأ معركة الوعي وتنتهي.
وحين تنطفئ الإضاءة، ونرى الحجم الحقيقي لما كان يُقدَّس، ندرك أن الصنم لم يكن صنمًا… بل مجرد صورة لم نرَ ما وراءها.



