أحمد التلاوي يكتب: لهذا ينجح البعض ويفشل آخرون!

في مجتمعنا، ومجتمعات الدنيا الأخرى، نرى الناجحين، ونرى الفاشلين، في أي مجال من مجالات العمل والسَّعْي.
وربما كان من أكثر الأسئلة التي تشغل بال الناس منذ قديم، هو كيف يحقق الإنسان النجاح في حياته، وما يرتبط بها بكيفية تحقق الإنسان لذاته.
ولذلك، كما هو ملاحَظ، فإن هذه الأمور باتت في عصرنا الحالي، من أهم حقول المعرفة التي تمت الكتابة فيها في مجال التنمية البشرية وتطوير الذات؛ حيث دُبِجَت فيها آلاف من الكتب والدراسات، بما يرتبط بها من قضايا مثل ما يتعلق بالتحكم في الذات، والتحكم في الآخرين، وفي الظروف المحيطة.
ولكن الحقيقة أن هذه النوعية من الكتب الموجودة في مصر والعالم العربي، تعتريها الكثير من المشكلات، من بينها أنها “مستوردة”، وبالتالي؛ فإنها تقدم شروحًا ونماذج حالة من مجتمعات مختلفة جِدَّ الاختلاف عن مجتمعاتنا، بكل معنى الاختلاف، بما في ذلك طبائع الناس، والبنية التشريعية والقانونية فيها، وطبيعة الظروف الاقتصادية والاجتماعية وكل ما يمكنه أنْ يمنع الاستنساخ الحَرْفي للمبادئ العامة والنماذج المذكورة في هذه الكتب.
تسبب ذلك في الكثير من الإحباط عند شريحة واسعة من الشباب ورواد الأعمال عندما حاولوا تطبيق ما قرأوه وتعلموه من هذه الكتب ودورات التنمية البشرية التي بنت منهجيتها عليها.
لذلك، بات من المهم العودة إلى الأساس، ذلك الأساس العام الذي يستخلص منه الكُتَّاب والأكاديميون ما يطرحونه في كتبهم ودوراتهم التدريبية، وهو علم الإدارة، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، وما يصل بينها من قواعد متعلقة بالسلوك الإنسان.
هذه العلوم، التي يمكن أنْ نطلق عليها العلوم الحقيقية، التي تصحُّ قواعدها على الصيني والأمريكي والمصري والألماني، وكل أجناس الأرض، هي التي من المهم الإلمام بقواعدها العامة.
ومن بين أهم عوامل النجاح التي نجدها في هذه العلوم، الجِدِّيَّة، فمن دون جِدِّيَّة، سوف تنقطع أواصرك مع الآخرين، ولن يحترموك، وبالتالي؛ لن يتقيَّدوا بالتزاماتهم معك.
ربما تبدو صفة الجِدِّيَّة هذه بديهية، أو نقولها على سبيل التعميم، إلا أنها في حقيقة الأمر، تحمل الكثير من التفاصيل الدقيقة شديدة الأهمية، التي هي بمثابة أدوات تثبيت أجزاء كيان نجاحك، مثلما تلعب بعض المسامير والدوائر المعدنية الصغيرة أكبر الأدوار في تشغيل وحماية السيارات والطائرات والصواريخ من الانهيار والدمار، ومساعدة هذه الآلات على القيام بأدوارها.
ومن بين ما يرتبط بالجِدِّيَّة هنا، احترام الإنسان لذاته، والذي يكون له دور كبير في حَمْل الآخرين على احترامه وتقديره، وبالتالي؛ الالتزام الكامل معه بكل الوعود، والوفاء بكل الالتزامات التي يقطعها طرفا أية معاملة أو أطراف أي عمل إزاء بعضهم البعض.
وبالتالي؛ مما يرتبط بالجِدِّيَّة من سمات مهمة، الالتزام، سواء في السلوك العام للإنسان، أو في طريقة تعامله مع ارتباطاته، في العمل، وفي حياته الاجتماعية.
وعلى الأقل؛ فإن ذلك يحمل في طياته مبدأً مهمًّا في علوم العمران؛ حيث الالتزام يقطع ذرائع الآخرين، ويسدُّ عليهم الطريق للتلاعب بأية صورة من الصور، وهو يناقض الكثير من علامات النفاق، والتي منها خَلْف الوعد.
ونأتي هنا إلى نقطة أخرى ترتبط بالجِدِّيَّة، وهي الدِّقَّة، فالدِّقَّة مطلوبة في كل شيء؛ في مواعيد الإنسان، وفي تنفيذه لالتزاماته وتوقيتاتها، وفي كل ما يفعل في حياته.
وللتدليل على أهميتها؛ نقول إن أهم إنجازات الإنسان الحضارية نهضت على الدِّقَّة، فالملليمتر الواحد، هو الفيصل بين نجاح أو فشل منظومات مثل الطائرات والسيارات والآلات الضخمة، والتي هي عِمَاد حركة الحضارة الإنسانية وتطورها.
كذلك الدِّقَّة هي أساس البناء السليم، وأي خلل بمبدأ الدِّقَّة في الرسوم الإنشائية لبيت أو بناء ضخم، إنما تؤدي إلى تقويض البناء وانهياره.
وعندما نقول إن “الدِّقَّة هي أساس البناء السليم”؛ فإننا لا نقصد فقط البيوت وناطحات السحاب وكل صور المعمار هذه، وإنما أيضًا البناء بمعناه الشامل، والذي يشمل بناء الإنسان لحياته في محاورها المختلفة؛ الاجتماعية والمهنية، والأهم في علاقته مع خالقه؛ فالالتزام والدِّقَّة في مواعيد أداء الصلوات الخمس والصوم وأداء الزكاة المفروضة؛ كلها من أركان نجاح الإنسان في أهم علاقاته في هذه الدنيا، وفي الآخرة، وهي علاقته مع ربِّه وخالقه سبحانه وتعالى.
وبالتالي؛ فإن الدِّقَّة ليست من نافل القول، أو تُؤخَذ بالمعنى المجازي؛ حيث الدِّقَّة المطلوبة، هي الدِّقَّة الحقيقية، التي تعني الالتزام الحرفي في الزمن، بالدقيقة، وفي الالتزام، بكل ما تعنيه كلمة “الالتزام” في أي مجال، مثل الالتزام بمواصفات المُنتجات والخدمات التي تسعى إلى تقديمها؛ حيث إن الإخلال هنا بمبدأ الدِّقَّة يقود إلى عدم تعامل الآخرين معك مرَّة أخرى.
وكَم من شركة أو كيان مؤسسي فشل وأفلس بسبب نقطة عدم الالتزام بالدِّقَّة هذه. فلنتصوَّر أن شركة تعمل في مجال النقل، من ديدنها عدم الدِّقَّة في المواعيد، أو أنْ تقدم شركة تعمل في مجال المنسوجات ملابس غير دقيقة في قياساتها. بالتأكيد سوف ينصرف عنها العملاء، وبالتالي؛ تُفلِس وتغلِق.
والذين لا يفهمون هذه السياقات؛ يرمون فشلهم على شمَّاعة الظروف الاقتصادية أو السياسية، بينما يتناسون أن هناك مَن ينجحون في ذات الظروف التي يقولون إنها السبب في فشلهم، بينما الفشل نابع منهم، ومن جهلهم بأهمية هذه القواعد.
كذلك من بين أهم سِمَات ومُكَوِّنات الجِدِّيَّة، الشفافية والوضوح، وما نهضت علاقة صحيحة ناجحة إلى على أساس الشفافية والوضوح، بينما تقود المُدَارَاة والَّلفِّ والدوران إلى إفشال أمتن العلاقات وأهمها، حتى ما نهض منها على التزامات شرعية مثل الزواج.
ولذلك في عالم المال والأعمال على سبيل المثال؛ فإن الشركات المُدرَجَة في أسواق المال والبورصات، من بين أهم ما هو مطلوب منها للموافقة على إدراجها، وللحصول على ثقة المتعاملين، هو الشفافية وما يعرف بالإفصاح؛ حيث مطلوب من الشركة أو المؤسسة بيان بكل ما يتعلق بها، وبالأصول التي تمتلكها، وبتكاليف التشغيل والعوائد الآنية، وميزانياتها، والعمالة فيها، وجداول الرواتب، وكل شيء.
ومن دون هذا الإفصاح الدقيق – تظهر لنا سِمَة الدِّقَّة مجددًا هنا – فإنه لن يكون من المسموح أصلاً لأي كيان بدخول أسواق المال، بكل ما يحمله من مزايا، مثل الحصول على التمويلات اللازمة للأعمال والأنشطة القائمة، أو للتوسُّع، بينما يؤدي التلاعب وعدم الشفافية وغياب الوضوح في هذه الأمور، إلى إيقاف أسهم الشركة عن التداول، بل ومعاقبتها قضائيًّا أيضًا بتهم النصب والاحتيال والتلاعب.
كذلك، فإن الشفافية والوضوح هي من أهم أركان العلاقات الإنسانية السليمة، ومن أهم أركان نجاح الزيجات، وهناك أُسَرٌ فَنَتْ وانتهت، وعلاقات فشلت بسبب المداراة وغياب الوضوح عنها.
تُعطِّي الجِدِّيَّة بهذه المعاني للإنسان التي يتبناها، الكثير من القيمة المُضافة، وتُسبِغ عليه الثقة، والتي هي من أهم الأمور في حياة الإنسان؛ حيث تضمن له دعم وإسناد الآخرين، وأن يقدِّموا له كل متطلبات نجاح الأمر الذي يعمل عليه، مهما كانت الظروف والصعوبات القائمة.
والأهم من ذلك، أنها تضمن التوفيق الإلهي؛ حيث إن الله تعالى لا يُسبِغ توفيقه ورعايته للمتلاعبين والمنافقين، أو الأفاقين، حاشاه ذلك سبحانه، كما أن الله تعالى لا يساعد إلا مَن يساعد نفسه، ومن أهم علامات مساعدة الإنسان لنفسه؛ هو السَّعْي، والسَّعْي القائم على القواعد السليمة التي من دونها لا تستقيم الأمور في أيَّة مساحة من مساحات حياة الإنسان.