
إعداد: رحمه حمدى
في خضم عاصفة سياسية تعصف بالسودان، حيث تتصاعد التحديات وتتشابك الخيوط، يبرز اسم الدكتور كامل الطيب إدريس كخيار استراتيجي لقيادة دفة الحكم في هذه المرحلة الدقيقة. إنه ليس مجرد رئيس وزراء جديد، بل رمز لتجربة سياسية وقانونية وأكاديمية ثرية، تحمل في طياتها آمالاً في استقرار قد يكون المنقذ من دوامة الأزمات المتلاحقة.
أعلن رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، يوم الاثنين، عن تعيين الدكتور كامل الطيب إدريس رئيسًا لمجلس الوزراء، وذلك بناءً على مرسوم دستوري تم نشره رسميًا في الوثائق الرسمية للدولة.
وجاء هذا التعيين بعد فترة امتدت قرابة ثلاث سنوات من استقالة آخر رئيس وزراء، الدكتور عبد الله حمدوك، في يناير 2022، وذلك في أعقاب دخول السودان في نفق مظلم من الجمود السياسي الحاد الذي أعقب أحداث الاشتباكات العسكرية التي اندلعت في 25 أكتوبر 2021. وكان من المخطط أن يتولى السفير دفع الله الحاج، الذي عُيّن مؤخرًا وزيرًا لشؤون مجلس الوزراء، مهام رئاسة الحكومة بصورة مؤقتة، إلا أنه قدم اعتذاره عن تولي المنصب، مما فتح الباب أمام اختيار شخصية ذات وزن دولي، هو الدكتور كامل إدريس، ليتقلد هذا المنصب الحساس.
وفي إطار التغييرات المتزامنة، عيّن البرهان امرأتين ضمن تشكيلة مجلس السيادة الانتقالي، هما سلمى عبد الجبار المبارك ونوارة أبو محمد محمد طاهر، كممثلتين عن المنطقتين الوسطى والشرقية على التوالي، في خطوة تهدف إلى تعزيز ما وصفه بـ”التوازن الجغرافي والجندري” في هيكل المجلس.

وُلد الدكتور كامل الطيب إدريس، الذي يبلغ من العمر 71 عامًا، في قرية الزورات الواقعة شمال دنقلا، ثم نشأ وترعرع في حي ود نوباوي بمدينة أم درمان.خاض إدريس غمار الانتخابات الرئاسية في عام 2010، منافسًا للرئيس السوداني السابق عمر البشير، في تجربة سياسية لم تحقق الزخم الكافي لإحداث تحول جذري في المشهد السياسي آنذاك، إلا أنها رسّخت مكانته كأحد أبرز وجوه المعارضة المدنية للنظام الحاكم في تلك الفترة.
مسيرة علمية ودبلوماسيةحافلة
بدأ الدكتور كامل إدريس مسيرته الأكاديميــة بحصوله على درجة البكالوريوس في الفلسفة والعلوم السياسية والنظريات الاقتصادية من جامعة القاهرة، ثم نال درجة الليسانس في الحقوق من جامعة الخرطوم في السودان. ومن هناك، اتجه إلى سويسرا لاستكمال دراساته العليا، حيث حصل على درجة الدكتوراه في القانون الدولي من المعهد العالي للدراسات الدولية التابع لجامعة جنيف.
واصل تطوير معرفته من خلال المشاركة في دورات تخصصية مكثفة في مجالات القانون والعلوم السياسية والعلاقات الدولية والمالية، والتي أتمها في معاهد مرموقة بمدينة جنيف، مما أهّله لاحقًا لأدوار قيادية في المؤسسات الدولية.

عمل في بداية مشواره الأكاديمي محاضرًا في الفلسفة والفقه بجامعة القاهرة خلال الفترة من 1976 إلى 1977، ثم انتقل إلى جامعة الخرطوم ليعمل أستاذًا للقانون الدولي. كما قام بتدريس مواد تخصصية في جامعات عالمية مرموقة، مثل جامعة أوهايو في الولايات المتحدة، وجامعة بكين في الصين، التي منحته لقب “أستاذ فخري” تقديرًا لإسهاماته العلمية.
محطات دولية بارزة
انضم الدكتور إدريس إلى السلك الدبلوماسي السوداني برتبة سفير، وهي الخطوة التي شكلت منعطفًا مهنيًا مهّد له الطريق نحو المنصات الدولية. ففي عام 1982، التحق بالمنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو)، ليتدرج في مناصبها حتى أصبح مديرها العام في نوفمبر 1997، وهو المنصب الذي شغله بجدارة حتى سبتمبر 2008.
وخلال فترة توليه رئاسة “الويبو”، بذل جهودًا كبيرة لتطوير النظام العالمي لحماية الملكية الفكرية، مع التركيز على تحقيق توازن عادل بين حقوق المخترعين ومتطلبات الدول النامية، وهي الجهود التي نالت اعترافًا واسعًا في الأوساط الدبلوماسية والأكاديمية الدولية.
كما شغل منصب الأمين العام للاتحاد الدولي لحماية الأصناف النباتية الجديدة (UPOV)، وهي منظمة متخصصة تهدف إلى تشجيع الابتكار في المجال الزراعي وضمان حقوق المربين في الأصناف النباتية الجديدة. إلى جانب ذلك، انتُخب عضوًا في لجنة الأمم المتحدة للقانون الدولي لفترتين متتاليتين، الأولى من 1992 إلى 1996، والثانية من 2000 إلى 2001، حيث كان له دور فاعل في صياغة وإعداد عدد من الاتفاقيات الدولية في مجال القانون الدولي العام.

يتقن الدكتور كامل إدريس ثلاث لغات بطلاقة، هي العربية والإنجليزية والفرنسية، بالإضافة إلى معرفة جيدة باللغة الإسبانية، مما منحه قدرة كبيرة على التواصل بفعالية في المحافل الدولية المتنوعة، ومكنه من تمثيل السودان والمنظمات التي عمل بها بأسلوب متوازن ومؤثر.
وحصل على العديد من التكريمات والأوسمة من جامعات ومؤسسات دولية، كان أبرزها منحه لقب “أستاذ فخري” من جامعة بكين. كما شارك كمتحدث رئيسي في عشرات المؤتمرات والمنتديات الدولية الكبرى، خاصة تلك المعنية بقضايا الملكية الفكرية والتنمية المستدامة.
التحديات المقبلة بعد التعيين
من المتوقع أن يتولى إدريس مهامه كرئيس للوزراء خلال الفترة الانتقالية المقررة، والتي تمتد لـ39 شهرًا، وفقًا للتعديلات الدستورية التي أُقرت في 19 فبراير الماضي، وتم نشرها في الجريدة الرسمية في 23 فبراير 2025. وتنص هذه التعديلات على أن عملية تعيين أو إقالة رئيس الوزراء يجب أن تتم بناءً على توصية من السلطة التشريعية الانتقالية، التي تتكون من مجلسي السيادة والوزراء.
في هذه اللحظة الفارقة، حيث تتجه الأنظار نحو القصر الجمهوري في الخرطوم، يحمل تعيين إدريس رسائل متعددة: داخلياً كإشارة إلى رغبة في التوازن السياسي، وخارجياً كتأكيد على سعي السودان لاستعادة دوره الإقليمي والدولي. لكن التحديات الجسام المتمثلة في الأزمة الاقتصادية الخانقة، والانقسامات السياسية العميقة، وتركة سنوات من الصراع، تطرح سؤالاً كبيراً: هل سيكتب التاريخ لهذه التجربة النجاح، أم ستكون فصلاً آخر في سلسلة المحاولات الفاشلة؟ البداية كانت بقرار تعيينه، ولكن الطريق ما زال طويلاً وشائكاً، والسودان ينتظر.