
لا أعني بالهجرة هنا، هجرة قطعان الأبقار ولا أسراب الأسماك والطيور، ولا حتى الأشخاص العاديين، إنما أقصد ” هجرة العقول “. ولا أعني بالموسم هنا فصل من فصول السنة إنما هو فصل مستمر بلا نهاية..
تحديداً بعد الحرب العالمية الثانية انقسم العالم وتغيرت ملامحه حيث تفتت الامبراطوريات ونالت معظم شعوب العالم استقلالها، ورسمت الحدود وقامت الدول بشكلها الحالي هنا أصبح للعالم وجهين دول متقدمة في الشمال ودول نامية تقع أسفلها، ومنذ ذلك التوقيت هجرة العقول أصبحت متجهة في مسار واحد صوب الشمال لتتسع الهوة عقد بعد آخر بين العالمين!
وعند النظر للقوة العظمي في العالم حالياً نجدها استمرت بفضل قوتها العسكرية والاقتصادية وهذا ناتج عن قوتها العلمية والتكنولوجية في الأساس والتي ساهمت فيه هجرة العقول بشكل كبير، نجد أنها تأخذ الثمرة الناضجة وتوفر الوقت والجهد انها تختار اختيار محكم ودقيق في انتقاء المبدعين من شعوب العالم النامي.. النظرية العلمية أهم من النظرية السياسية، وان فقدت أمريكا قدرتها على انتاج نظريات علمية تتحول لمخترعات وبرامج ستفقد قدرتها السياسية في المستقبل.
إنّ القبض على ناصية العلم والاتقان الفني هو القبض على ناصية المستقبل، العلم اليوم هو الذي يصنع التاريخ قبل أن تصوغه أي نظرية سياسية أو اجتماعية.. العلم هو الذي يقلب وجه الحياة، يخلق مشاكل جديدة للحياة أما النظريات السياسية فهي مجرد محاولات لمواجهة الواقع الجديد الذي يفرضه تقدم العلم.
ويطرح المقال عدة أسئلة جوهرية حول مصطلح ” هجرة العقول “:
هل تعني تفريغ المجتمعات الفقيرة من أدمغتها الغنية، ولا يبقى في تلك البلاد النامية إلا العقليات العادية وذوي المهارات المحدودة فتتعطل التنمية؟وماذا إذا لم تهاجر تلك العقول إلى البلاد الأكثر تقدماً هل كانوا سيجدون الفرصة في بلادهم؟وكيف تتجنب الدول النامية خسائر هجرة العقول كما فعلت الصين واليابان من قبلها؟وما هي المغريات المحفزة ليكون مسار الهجرة دائما صوب الشمال؟
في الحقيقة مفهوم ” هجرة العقول” مفهوم حديث نسبياً ولكن الظاهرة قديمة جدا ومتكررة في التاريخ الحضاري.. وما التاريخ الإنساني إلا هجرة للعقول من بلد إلى آخر. وما كان للعلم أن يتقدم الا بوجود تلك الظاهرة فهجرة العقول مهمة جداً في الحراك العلمي وتكامل الأفكار..ولكن لابد أن يكون هناك عدالة نوعية في هذه الهجرة ولابد ألا تكون في موسم واحد مستمر بلا انقطاع واتجاه واحد صوب الشمال، ومن هنا ظهرت أفكار جديدة وعلى رأسها ” تدويل التعليم العالي “وتبادل الخبرات والهجرة المؤقتة بدلاُ من هجرة العقول الدائمة..
إنّ المشكلة الحقيقية في هذه الظاهرة هي ليست ترك هذه الخبرات والكفاءات مواقعهم الطبيعية في الوطن وانتقالهم الى مؤسسات علمية وبحثية متطورة في دول الشمال، فيمكن لهذا الانتقال ان يفيد في تطور العلم ويدفع بعجلته نحو الأمام ويأتي بخبرات جديدة الي البلاد. كما فعل المهاجرون اليابانيون والصينيون بعد الحرب العالمية الأولي لكن المشكلة التي تفرض نفسها هو في عدم رغبتهم او قدرتهم على ترك مواطنهم الجديدة ورجوعهم إلى أوطانهم الأصلية بعد حصولهم على الخبرات العلمية والمهارات التقنية التي يمكنها دفع عجلة التنمية في وطنهم الأم ..وتشير الإحصاءات المأخوذة من منظمة العمل الدولية واليونسكو أن 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون بلادهم ..مما أثر بشكل كبير على ضعف الإنتاج المعرفي والبحثي في البلاد العربية حيث تقدر النسبة المقبولة المعتمدة لتفجير الطاقات الخلاقة ب 1500 عالم وباحث لكل مليون نسمة ، بينما المتوسط العربي 350عالم وباحث فقط لكل مليون شخص .
إن البلدان النامية تتحمل بسبب هذه الهجرة خسارة مزدوجة لضياع ما انفقته من أموال وجهود في تعليم واعداد الكفاءات المهاجرة، ومواجهة نقص الكفاءات عن طريق استيراد الكفاءات الغربية بتكلفة كبيرة ناهيك عن التبعية الثقافية والاقتصادية للغرب..
وعند النظر مثلاً لتكلفة دراسة الطب في مصر مقارنة بالولايات المتحدة الامريكية نجد فارق كبير ففي مصر تتحمل الدولة معظم التكاليف بينما في الولايات المتحدة تتراوح تكاليف دراسة الطب بين 30,000 و70,000 دولار سنويًا، وقد تصل التكاليف الإجمالية لبرنامج الطب إلى حوالي 200,000 دولار وفقا لبيانات 2024.. ولذلك يجب هنا على الأطباء المصريين الذين يعملون في الخارج أن يتذكروا جيدا دور بلدهم الحقيقي وتصبح فوائد هجرة العقول عظيمة عندما تكون هجرة مؤقتة وليس دائمة.. اي لا تنقطع روح المبدع بوطنه القديم. وهناك نماذج مصرية مشرفة في هذا الصدد على رأسها البروفيسور مجدي يعقوب.
ولكن السؤال.. لماذا يترك المبدع وطنه وأهله وذكرياته خلف ظهره ويقرر الهجرة وقد تكون بلا عودة؟؟ هل الحلم لا يتحقق الا خارج الأوطان؟
لا شك أن هناك عوامل معقدة ومتشابكة جعلت خط مسار الهجرة في هذا الاتجاه فالهجرة إلى الشمال لها أسبابها القوية والتي نجملها في عدة نقاط :
-عوامل الديموجرافيا والتي تتعلق بالنمو السكاني السلبي لمعظم دول الشمال مقارنة بمعدلات الخصوبة المرتفعة في الدول النامية والذي نتج عنه ارتفاع معدلات الشباب في الدول النامية مقابل ارتفاع نسبة كبار السن في دول الشمال..
-ارتفاع مستوى الدخل ورفاهية المعيشة وجودة الحياة في دول الشمال .
-الحرية الاكاديمية وحرية البحث العلمي في تلك البلاد يشجع على التفوق والابتكار وسهولة تحويل النظريات الي ابتكارات ومشاريع وبرامج بينما في البلاد النامية تتوقف معظم الأبحاث عند مرحلة النظرية فقط دون أن تدخل حيز التطبيق والاستفادة العملية .
-الهروب من البيروقراطية في معظم بلاد العالم النامي .- المناخ المعتدل يشجع على التفوق والابداع في دول الشمال مقارنة بالمناخ المداري والاستوائي الذي تدخل ضمن نطاقه معظم دول العالم النامي والذي يشجع على الخمول.
-عوامل نفسية بحتة، تتعلق بالنكوص المرضي والنظرة الدونية وعدم الثقة في مؤسسات العالم النامي، فالنظرة الدولية والطابع العالمي هو الختم الرسمي ليجعلنا نعترف بكونه مبدع أم لا وهذه هي الإشكالية التي تصعب اكتشاف المبدع في البلاد النامية قبل مغادرته للبلاد.- التحرر من قيود القديم والتقاليد والمورثات الخاطئة التي تكبل العقل، وطبقية التخصصات والمشاكل الطائفية والحروب الاهلية في العديد من البلاد النامية كل هذه عوامل شجعت المبدعين في الهجرة نحو الشمال والتفوق في بلاد تتنفس حرية.
-كما ان بعض الادبيات تشير ان هناك عوامل سياسية غير معلنة وراء تشجيع هجرة العقول في بعض الدول فتشجيع هجرة الكفاءات كأحد الوسائل السياسية للتخفيف من حدة المعارضة السياسية من جهة وإعادة انتاج النخب من جهة أخرى.. او الهروب من ضغوطات الأطباء والباحثين والمبدعين في كافة المجالات من مطالباتهم بالمزيد من الأجور والامتيازات وهذا لا تستطيع موازنة الدول النامية توفيره فتسهل لهم الطريق أمام الهجرة بطرق شرعية مكتفية بالاستفادة من تحويلاتهم النقدية من الخارج..
وبصفة عامة ان دور الهجرة في التنمية له ثلاثة جوانب:أ) فوائد للمهاجر ب) فوائد لبلد المنشأ ج) فوائد لبلد المقصد
لايزال التركيز ينصب على الفوائد التي تعود على بلد المنشأ في تقييم ما إذا كانت هذه الفوائد تفوق تكلفة هجرة العقول (كونها على مستوى البلد) وبالتالي تؤكد على سردية ” الهجرة من أجل التنمية ” أو أن فوائدها أقل من التكلفة مما يجعل الهجرة في الواقع تهديدا للتنمية.وفقا لنتائج تقرير التنمية لعام 2023 كلما زادت القدرات زادت احتمالية بقاء عدد كاف من العمال ذوي المهارات العالية، حتى لو هاجر آخرون مما يضمن إبقاء تكلفة هجرة العقول عند حدها الأدنى. ولكن التكاليف التي يتحملها بلد المنشأ من فقدان عامل مؤهلا تأهيلاً عالياً تصبح مؤثرة بالذات عندما يكون العمال في مهن تعتبر ضرورية لبلد المنشأ، ودائما تضع نقابة الأطباء الدولة تحت ضغط بالتلويح بهجرات عدد كبير من الأطباء خارج مصر مما جعل الدولة تكثف جهودها لتخريج أكبر عدد ممكن من الأطباء الشبان من خلال توسعها في بناء الجامعات الأهلية تجنباً لأي نقص في عدد الأطباء الناتج عن الهجرات المستمرة ، حيث سيزداد عدد خريجي الكليات الطبية من 10 آلاف خريج إلى 30 ألف خريج بحلول 2030.
من الضروري ملاحظة ان بلدان المنشأ تجني أكبر قدر من الفائدة عندما تدمج هجرة اليد العاملة في استراتيجيتها الإنمائية، مما جعلها جزء لا يتجزأ في التنمية وستتمكن بلدان المنشأ من تعزيز نقل المعرفة في حالة وجود سياسات للعودة واتخاذ التدابير اللازمة لنقل المعرفة ودعم المهاجرين العائدين أثناء إعادة اندماجهم في المجتمع ولا سيما الخبراء في المجالات التطبيقية.
وتعتبر تدفق التحويلات النقدية من أبرز الفوائد المادية التي تعود على بلد المنشأ ويلعب فارق العملة دوره المغري في هذا الصدد، وقد تأكد أن التحويلات المالية مصدر أساسي للعملة الأجنبية للبلدان النامية ولا سيما دول الهند ، البرازيل ، مصر وبالتالي أداة لاستقرار الاقتصاد الكلي ، وعلى المستوى الجزئي تشكل التحويلات مصدرا للدخل لمن يعولهم المهاجرون ، مما يزيد من استهلاك الاسرة ويزيد من الانفاق على الامن الغذائي والصحة والتعليم ، وفي كثير من الحالات يخفف من وطأة الصدمات الاقتصادية على الاسرة ، فالمصريين في الخارج على سبيل المثال أصبحوا قوة عددية مؤثرة ، حيث يتجاوز عددهم 14 مليون نسمة اذ تشير التوقعات إلى ان قيمة تدفقات المغتربين يمكن ان تتجاوز 33 مليار دولار بنهاية العام المالي 2024- 2025 لتكسر بذلك قيمتها التاريخية المسجلة عند حدود 31.9 مليار دولار ولطالما لعبت تحويلات المصريين بالخارج دورا محوريا فمصر الخامسة عالميا ، والأولي عربيا وأفريقيا في استقبال تحويلات العاملين خارج الحدود .
ختاماً تحتاج مصر الي تعظيم فوائد الهجرة من خلال تقليل تكاليف هجرة العقول وانشاء آليات لإعادة نقل المكاسب من بلدان المقصد الي بلدان المنشأ بدءا من تعظيم الفائدة من خلال تعزيز نقل المعرفة. وعدم الاكتفاء بالمكاسب المادية فقط للهجرة.