شحاتة زكريا يكتب: مصر الزرقاء.. حين يصبح البحر مشروعا للوطن

ليست الجغرافيا مجرد حظ من السماء بل مسؤولية من الأرض. ومصر التي تقف على ضفّتي التاريخ والموقع تملك ما لا تملكه دول تقاتل من أجل موطئ قدم على البحر. من شواطئ المتوسط الهادئة إلى سواحل البحر الأحمر المتدفقة بالحياة ومن قلب قناة السويس النابض إلى أطراف الدلتا وسيناء تمتد مصر كقوس أزرق يرسم على الخريطة ملامح مستقبل مختلف… لو أحسنت استثماره.
في الزمن الذي تُخاض فيه الحروب من أجل المياه لا تزال بعض العقول تتعامل مع البحر باعتباره فقط حدودا أو مرفأً سياحيا موسميا. بينما الحقيقة أنه مشروع استراتيجي شامل يُسمّى في علوم اليوم: “الاقتصاد الأزرق”. وهو مفهوم حديث لكنه منطقي يربط بين استغلال الموارد البحرية بطريقة مستدامة وبين تحقيق الأمن الغذائي ، والسيادة الاقتصادية بل وصياغة دور إقليمي ودولي جديد.
أن تمتلك مصر أكثر من 3 آلاف كيلومتر من السواحل.فهذه ثروة ، لكنها لا تُقاس بالأميال بل بالأفكار التي تُولد على الشاطئ. أن تمتلك قناة السويس فهذه ورقة نادرة لكنها لا تؤتي ثمارها كاملة إلا حين تُزرع حولها المناطق اللوجستية والصناعية ومراكز الابتكار. أن تمتلك موانئ على البحرين الأحمر والمتوسط ، فهذه فرصة لكنها لا تتحول إلى قيمة حقيقية إلا حين تُدار بعقل السوق ورؤية الدولة.
ما يحدث اليوم من تطوير لمدينة العلمين الجديدة ، ومنطقة قناة السويس وموانئ دمياط وسفاجا والعين السخنة.ليس مجرد تطوير بنية تحتية ، بل رسمٌ لهوية جديدة تقول إن البحر لم يعد للمصيف فقط ، بل للمصنع والمزرعة والمختبر والميناء.
لكن ما الذي يُميز الاقتصاد الأزرق عن سواه؟ إنه ببساطة الاقتصاد الذي يرى في البحر أكثر من مجرد ماء. يرى فيه الطاقة المتجددة ، وصيد الأسماك المستدام والنقل البحري الحديث والسياحة البيئية وتقنيات تحلية المياه، والبحث العلمي البحري وتكنولوجيا الغوص والتنقيب والاتصال تحت الماء. إنه اقتصاد يستثمر في البحر دون أن يستنزفه.
وم هنا فإن كل شراكة تُبرمها مصر مع دول وشركات في تطوير مناطقها الساحلية ليست تنازلا عن السيادة بل تأكيد عليها. فالسيادة لا تُقاس بعدد الحراس بل بعدد الأفكار والفرص التي تتحول إلى واقع. وكل مشروع يُقام على شاطئ مصري يخلق وظيفة ويُعيد صياغة العلاقة بين المصري والمكان.
لقد ظللنا لعقود ننظر إلى البحر من بعيد كأن بيننا وبينه حجاب نفسي. الآن، تُبنى جسور جديدة. لكن المطلوب ليس فقط مشروعات ضخمة بل رواية وطنية جديدة.تجعل الطفل في المدرسة يفهم أن وطنه ليس فقط في اليابسة بل في الأعماق أيضا.
مصر الزرقاء ليست شعارا تجميليا بل استراتيجية دولة تدرك أن القرن الحادي والعشرين لا ينتصر فيه من يملك الأرض فقط بل من يُحسن الإبحار أيضا. وبينما يزداد العالم ازدحاما على اليابسة لا يزال البحر يعرض علينا أسراره. فقط إن امتلكنا البوصلة وصدقنا أن البحر ليس نهاية البر بل بداية المستقبل.