
في زمن تتقاطع فيه الأزمات وتتداخل فيه المصالح وتتشابك فيه التهديدات تأتي القرارات السياسية والاقتصادية الكبرى كأفعال مصيرية لا مجرد إجراءات عابرة أو ردود أفعال وقتية. ومن بين تلك القرارات يبرز النموذج المصري بوصفه تجربة فريدة في كيفية الموازنة بين الأمن والاستقرار من جهة، وبين النمو الاقتصادي والانفتاح من جهة أخرى.
لقد اختارت مصر طريقا بالغ الحساسيه إذ لا يمكن الحديث عن حماية الاقتصاد دون تحصين الأمن، ولا بناء الثقة مع المستثمرين دون رسائل قوية بأن الدولة قادرة على حماية مصالحهم، في الداخل والخارج.
لذلك فإن القرارات التي تُتخذ في هذا السياق ليست منعزلة وإنما تأتي ضمن سياق شامل يربط بين السياسة والأمن والاقتصاد بشكل لا يقبل التجزئة.
حين قررت مصر الانخراط في تحالفات دولية كـ “البريكس”، لم يكن الهدف فقط اقتصاديا بل هو أيضا رسالة بأن القاهرة تتحرك برؤية متعددة الأبعاد تبحث عن أمنها الإقليمي وتنسج علاقاتها الدولية بما يخدم مصلحة الدولة الوطنية ، لا بما يرضي أحدا من الخارج. وعندما فتحت الباب للتعامل باليوان الصيني لم يكن ذلك تحديا لأحد بل كان إدراكا ناضجا لتغير موازين القوة في النظام العالمي.
وفي الداخل تأتي قرارات مثل الرخصة الذهبية للمستثمرين، وحوافز الاستثمار في المشروعات الخضراء ، وتوسيع مظلة الدعم النقدي المشروط ، كجزء من سياسة اقتصادية تأخذ في حسبانها البُعد الاجتماعي ، وتضع المواطن في قلب المعادلة لا على هامشها.
ولعل أبرز ما يميز هذه السياسة المصرية هو هذا التوازن بين الحذر والجرأة: لا اندفاع وراء شعارات رنانة ولا تردد يُضيع الفرص. فقط حسابات دقيقة وخطى محسوبة ومراقبة لصيقة لتحولات الإقليم والعالم. ففي الوقت الذي تحاول فيه دول عديدة مداواة جراح اقتصادية بسكاكين سياسية اختارت مصر أن تداوي جراحها بالتنمية.
انظر إلى مشروعات البنية التحتية: الطرق، والموانئ، والمدن الجديدة والمجمعات الصناعية. هي ليست مشروعات هندسية فحسب بل أدوات لخلق واقع اقتصادي جديد وجذب استثمارات وفتح فرص عمل وتعزيز قدرة الدولة على التحرك اقتصاديا باستقلال.
ثم انظر إلى السياسة الخارجية وكيف استطاعت مصر في سنوات قليلة أن تستعيد وزنها في المعادلة الدولية ، لا بالصوت العالي بل بحضور صامتٍ وقوي ، قائم على المصالح المشتركة واحترام السيادة وتوسيع دوائر التعاون من دون تفريط في الثوابت.
ولأن السياسة الرشيدة تُقاس بالنتائج ، فإن ما يجرى في مصر اليوم يؤكد أن هناك خطة، ورؤية، وشجاعة في اتخاذ القرار. صحيح أن الطريق ليس سهلا وأن التحديات جسام وأن المواطن يشعر بثقل اللحظة لكنه أيضا يرى أن هناك دولة لا تغيب ومؤسسات لا تنهار وإرادة لا تلين.
القرار المصري إذًا ليس قرارا اقتصاديا فقط ولا سياسيا فقط إنه موقف من العالم وإعلان للذات الوطنية وتمسك بخصوصية التجربة. وإذا كان من دروس يُمكن أن تُستخلص فإن أولها أن الأمن لا يتحقق بالقوة فقط ، بل بالحكمة. والاقتصاد لا يُبنى بالمال فقط بل بالثقة. ومصر – كما تثبت الأيام – تبني الثقة، وتحفظ الحكمة، وتُحسن القرار.
في النهاية لا بد أن ندرك أن السياسات العظيمة تُقاس بما تتركه من أثر لا بما تحدثه من ضجة. ومصر – بهدوء وثبات ووعي – تصنع أثرها.