
وسط عالم يموج بالأزمات تتبدّل مفاهيم الأمن القومي لم تعد القوة العسكرية وحدها ضمانا للاستقرار، بل باتت القوة الاقتصادية- وتحديدا الصناعية- هي الحصن الحقيقي للدول.ومن هنا يصبح السؤال: هل نمتلك ما يكفي من الإرادة والرؤية لنضع الصناعة في مكانها الطبيعي كمحرك للنمو ودرع في وجه العواصف القادمة؟.
منذ جائحة كورونا وحتى تداعيات الحرب في أوكرانيا مرورا بالاضطرابات التجارية بين القوى الكبرى تلقى العالم درسا قاسيا: لا أمان للدول التي تعتمد على الخارج في احتياجاتها الأساسية. ومع تصاعد الحروب التجارية، خصوصا بين الصين والولايات المتحدة، وتضييق الخناق على سلاسل الإمداد أصبحت الدول مجبرة على إعادة ترتيب أولوياتها.
في هذا السياق تبدو مصر أمام لحظة تاريخية لا تحتمل التردد. نعم هناك خطوات بدأت ومبادرات أُطلقت مثل مبادرة دعم الصناعة بـ30 مليار جنيه لتمويل خطوط الإنتاج وزيارات ميدانية لرئيس الوزراء وعدد من الوزراء للمصانع وهي مؤشرات طيبة على جدية التحرك. لكن الطريق ما زال طويلا.الصناعة لا تنمو بتوجيهات فوقية فقط بل تحتاج بيئة حاضنة: تشريعات مرنة، رخص سريعة، أراضٍ مهيأة، عمالة مدربة، ومناخ استثماري لا يرهق المستثمر ببيروقراطية مُحبطة. الرخصة الذهبية خطوة مهمة، لكنها وحدها لا تكفي.
ما نحتاجه هو أن يتحول المستثمر من طارق للباب إلى شريك في صنع القرار.كما أن ربط التعليم باحتياجات الصناعة لم يعد رفاهية. لن تُبنى قاعدة صناعية دون كوادر فنية حقيقية ، ولهذا فإن التوسع في المدارس الفنية التطبيقية، والجامعات التكنولوجية، والتدريب المهني المستمر يجب أن يكون أولوية وطنية لا هشيئا على الهامش.
لكن الأهم من كل هذا هو إعادة الاعتبار لفكرة “توطين الصناعة”. لا يكفي أن نستورد خطوط إنتاج ونُعيد تشغيلها، بل علينا أن نُنتج التكنولوجيا نفسها. لن ننافس عالميا ونحن نكتفي بلعب دور “المُجمّع”.
التصنيع الحقيقي يبدأ من الفكرة، من براءة الاختراع، من المعمل، وليس فقط من المصنع.إنها لحظة فارقة بين أن نظل مستهلكين لما يُنتج في العواصم الكبرى أو أن نصبح من صناع القرار الاقتصادي الدولي. والصناعة ليست مجرد خيار اقتصادي بل خيار سيادي. وكل مصنع يُقام على أرض مصر، هو طوبة في جدار استقلالنا الحقيقي.