
إعداد: رحمه حمدى
في معادلة معقدة من الابتزاز المتبادل، يبدو أن الرئيس الأمريكي ترامب مستعد لفعل أي شيء مقابل الحصول على عنصر واحد “الساماريوم”، هذا العنصر النادر يستخدم في تشغيل طائرات F-16، والصواريخ الدفاعية، والقنابل الذكية، ومكونات أساسية في الأنظمة الحربية المتطورة، وتقريباً هو المشغل الأول لجميع المنتجات الحربية. ورغم أن الاستخدام العسكري لهذا المعدن لا يتجاوز 10% من مجمل استخداماته، فإن هذا الجزء البسيط كفيل بشلّ قدرات أي جيش يعتمد عليه. يُعد المعدن حجر الزاوية في البنية العسكرية الغربية ومن دونه، تبدو واشنطن، حرفيًّا، “صفرًا عسكريًّا”.
لكن بكين، التي تحتكر إنتاج الساماريوم عالميًا، لا تُخفي شروطها: فهي لا تسعى إلى المال، بل إلى التكنولوجيا. تحديدًا، إلى أدوات تصميم الرقائق الإلكترونية المتطورة التي تحتكرها شركات أمريكية وغربية. وإذا حصلت الصين على منفذ إلى هذه الأدوات، فستقترب من كسر هيمنة شركة TSMC التايوانية، ما يفتح أمامها الباب لهيمنة تكنولوجية كاملة – وربما سياسية – على تايوان نفسها. في هذه المواجهة، لا تبدو الصين كقوة صاعدة فقط، بل كمن يمسك برقبة الصناعات الدفاعية الغربية، ويُملي شروطه بهدوء.
الصين تسيطر على “ورقة الضغط” التي تهدد الصناعات العسكرية الغربية
تُهيمن الصين على إمدادات العالم من هذه المعادن والمغناطيسات المصنوعة منها والمستخدمة في السيارات والطائرات والروبوتات وأشباه الموصلات. ردًا على رسوم إدارة ترامب الجمركية، أوقفت بكين الشحنات. وحتى مع تفاوض البلدين على استئناف هذه الصادرات، كانت الصين تُشدد قبضتها على تهريب المعادن النادرة إلى خارج البلاد.
المشكلة الأكبر بالنسبة لأمريكا أن إنتاج الساماريوم يعتمد بنسبة 100% على الصين، ولا يوجد له بديل حقيقي في السوق العالمية. وتُشير تقارير إلى أن الاحتياطيات الأمريكية من هذا المعدن داخل البنتاجون تقترب من النفاد، مما يضع القدرات الدفاعية في موقف هشّ، خاصة في ظل التوتر المتصاعد مع إيران. فلا يمكن للولايات المتحدة، بأي حال، خوض حرب طويلة دون تأمين إمداداتها من المعادن النادرة، وعلى رأسها الساماريوم.
المفاوضات السرية و”صفقة ترامب”
في هذا السياق الحرج، كشفت نيويورك تايمز أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أعطى الضوء الأخضر لمفاوضين أمريكيين أثناء عقد محادثات مع نظرائهم الصينيين في لندن، باستخدام كارت فك الحظر عن أدوات تصميم الرقائق الإلكترونية، مقابل الساماريوم
نقلت رويترز عن مصدرين رفضا ذكر اسميهما أن المفاوضات دارت حول صفقة تبادلية غير معلنة رسميًا، جوهرها الساماريوم مقابل الرقائق الإلكترونية.
تسعى الصين لرفع القيود المفروضة على وصولها إلى برامج تصميم الشرائح الدقيقة المحتكرة من قبل ثلاث شركات أمريكية كبرى، هذه البرمجيات، المعروفة باسم EDA (Electronic Design Automation)، تُستخدم لتحرير تصميمات الترانزستورات والرقائق الإلكترونية، ويصل اشتراكها السنوي إلى نحو 300 ألف دولار للمقعد الواحد، كـ”ضيف” فقط، بدون صلاحية التملك الكامل.
ما تريده الصين بشدة هو الوصول إلى أدوات تُعرف بـ BDK (Building Design Kit)، وهي بمثابة مكتبة التصميم الأساسية التي تحتكرها TSMC، أكبر منتج للرقائق الإلكترونية، بالتعاون مع المزودين الأمريكيين.
هذه الأدوات ضرورية لتلبية متطلبات تصنيع الشرائح فائقة الدقة، وإذا ما تمكنت الصين من الوصول إليها، فإنها قد تكسر احتكار الغرب لسوق الرقائق المتقدمة، وهو ما تعتبره واشنطن خطرًا استراتيجيًا يفوق خسارة أي معركة تقليدية. فهناك وثائق مسربة ذكرت أن الصين حاولت شراء وصول إلى BDK عبر وسطاء، لكن العقوبات الأمريكية حالَت دون ذلك.
سلاح المعادن النادرة: لماذا ترفض الصين فك الحظر
قال شخصان مطلعان على النتائج التفصيلية للمحادثات لرويترز إن الهدنة التجارية المتجددة بين الولايات المتحدة والصين التي تم التوصل إليها في لندن تركت مجالا رئيسيا للقيود على الصادرات المرتبطة بالأمن القومي دون مساس، وهو صراع لم يتم حله يهدد اتفاقا أكثر شمولا.
أفاد المصدران بأن بكين لم تلتزم بمنح تصريح تصدير لبعض مغناطيسات المعادن الأرضية النادرة المتخصصة التي يحتاجها الموردون العسكريون الأمريكيون للطائرات المقاتلة وأنظمة الصواريخ.
الصين ما تزال تمنح رخص تصدير موسمية (6 أشهر)، وهو ما يهدد سلسلة توريد الساماريوم للصناعات الدفاعية، لا سيما إنتاج المحركات والمغناطيسات للطائرات F‑35، وأمريكا تريد عقد طويل الأمد في المقابل تُبقي الولايات المتحدة على قيود التصدير على مشتريات الصين من رقائق الذكاء الاصطناعي المتقدمة، خشية أن يكون لها أيضًا تطبيقات عسكرية.
هوس الأمريكيون للحصول على الساماريوم
يسعى الأمريكيين بكل الطرق للحصول هلى هذا المعدن، ويبدو أن صبرهم بدأ ينفذ فقد ذكرت “نيويورك تايمز”
أن الزعيم الصيني شي جين بينج لو كتب كتابا بعنوان “فن التعامل مع ترامب”، فمن المرجح أنه سيدعو إلى استغلال نقاط ضعف الرئيس الأميركي الأعظم لممارسة أقصى قدر من الضغوط، ثم استخدام الوقت المكتسب لتعزيز موقفه.
ذكر شخصان على علم بالنتائج التفصيلية للمحادثات لوكالة رويترز أن الهدنة التجارية المتجددة بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين الشعبية، والتي تم التوصل إليها في العاصمة البريطانية لندن، قد تركت مجالاً رئيسياً متعلقاً بقيود الصادرات المرتبطة بالأمن القومي دون حل، وهو خلاف لم يتم تسويته ويشكل تهديداً أمام إمكانية التوصل إلى اتفاق أكثر شمولاً بين الطرفين.
وأفاد المصدران بأن الحكومة الصينية لم تقدم أي التزامات بمنح تراخيص تصدير لبعض أنواع مغناطيسات المعادن الأرضية النادرة المتخصصة، والتي يحتاجها الموردون العسكريون الأمريكيون لتصنيع الطائرات المقاتلة وأنظمة الصواريخ. في المقابل، حافظت الولايات المتحدة على قيودها التصديرية على مشتريات الصين من رقائق الذكاء الاصطناعي المتطورة، وذلك بسبب مخاوف واشنطن من إمكانية استخدام هذه الرقائق في تطبيقات عسكرية.
وخلال المحادثات التي جرت في لندن الأسبوع الماضي، أظهر المفاوضون الصينيون نية لربط أي تقدم في رفع القيود المفروضة على تصدير مغناطيسات المعادن الأرضية النادرة المستخدمة في المجالات العسكرية بالقيود الأمريكية طويلة الأمد على تصدير أحدث رقائق الذكاء الاصطناعي إلى الصين. وقد مثل هذا الموقف تحولاً ملحوظاً في مسار المفاوضات التجارية بين البلدين، والتي بدأت في الأصل بمناقشة قضايا مثل تهريب المواد الأفيونية، ومعدلات التعريفات الجمركية، والفائض التجاري الصيني، لكنها اتجهت لاحقاً إلى التركيز بشكل أساسي على ضوابط التصدير.
بالإضافة إلى ذلك، أشار مسؤولون أمريكيون إلى أنهم يخططون لتمديد العمل بالرسوم الجمركية الحالية المفروضة على الصين لمدة تسعين يوماً إضافية بعد انتهاء المهلة المحددة في العاشر من أغسطس، والتي تم الاتفاق عليها في جنيف الشهر الماضي، وفقاً لما ذكره المصدران. وهذا يشير إلى أن التوصل إلى اتفاق تجاري دائم بين أكبر اقتصادين في العالم يبقى غير مرجح قبل ذلك التاريخ، ولكن هل يصمد ترامب أمام إيران حتى أغسطس!
من جهته، صرح وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت بأن الولايات المتحدة لن تقدم أي “مقابل” أو تنازلات لتخفيف القيود المفروضة على صادرات رقائق الذكاء الاصطناعي إلى الصين مقابل الحصول على الساماريوم
يذكر أن الاتفاق الذي تم التوصل إليه في جنيف الشهر الماضي لتخفيض التعريفات الجمركية الثنائية من مستويات ثلاثية الأرقام قد تعثر بسبب القيود التي فرضتها الصين على صادرات الساماريوم في شهر أبريل الماضي.
ورداً على ذلك، قامت إدارة ترامب بفرض قيود تصدير جديدة تمنع شحنات برمجيات تصميم أشباه الموصلات، ومحركات الطائرات النفاثة المصنوعة في الصين، بالإضافة إلى عدد من السلع الأخرى إلى السوق الصينية.
بين تراخيص هواوي وتشديد الحظر
في البداية، بدت المؤشرات إيجابية، حيث أعلنت شركة “جي إل ماج للمعادن النادرة” (300748.SZ) الصينية، وهي إحدى الشركات الرائدة في إنتاج مغناطيسات المعادن الأرضية النادرة، عن نيتها إطلاق منتج جديد. كما صرحت شركة “هواوي” يوم الأربعاء بأنها حصلت على تراخيص تصدير تشمل الولايات المتحدة، بينما أكدت وزارة التجارة الصينية موافقتها على بعض “طلبات التصدير المتوافقة مع الشروط”.لكن الصين لم تتراجع عن موقفها فيما يتعلق بالمعادن الأرضية النادرة المتخصصة، خاصة معدن الساماريوم.
رصدت صحيفة الجارديان في 11 يونيو أن مشروع الاتفاق المقترح بين ترامب و الصين تضمن بنودًا لإعادة صادرات الساماريوم، مؤكدة أهميته لصناعة الطائرات المقاتلة والدبابات وقذائف المدفعية الذكية. وأشارت إلى أن الصين عرضت خفض الرسوم الأمريكية البالغة 55٪ في مقابل موافقة أمريكية عند رفع الحظر عن صادرات المعادن، في مشهد يعكس التبادل الاستراتيجي بين المعادن والتكنولوجيا، مما يدل أنا الصين متخوفة من تقلبات ترامب فمن الممكن بعد عقد صفقة توريد لمدة ثلاث سنوات أن ينقلب ترامب بعد أن يحصل على مايريده ويلغي صفقة الرقائق.
هل نحن أمام حرب باردة جديدة
الصفقة المحتملة تُظهر حجم الابتزاز المتبادل بين القوتين: فبينما تمتلك الصين مفتاح تشغيل الآلة الحربية الغربية من خلال الساماريوم، تمسك أمريكا بمفاتيح الثورة التكنولوجية الصينية. ورغم تفويض ترامب للمفاوضين ببحث هذه المبادلة، تُشير التقديرات إلى أن بكين تُدرك جيدًا أنها قد تقع في فخ استراتيجي إذا منحت الغرب حرية الوصول إلى الساماريوم دون مقابل مضمون.
أما المفارقة الأكبر، فتكمن في أن معدنًا مجهولًا لدى الرأي العام مثل “الساماريوم” قد يكون هو الحلقة الأخطر في توازن القوة بين الشرق والغرب، وقد يُحدّد مصير صراعات جيوسياسية كبرى، بدءًا من مضيق تايوان إلى الاتفاق النووي الإيراني.