مقالات

أحمد صبري شلبي يكتب: تسجيل عبد الناصر.. شهادة للتاريخ على صواب رؤية مصر

في دهاليز السياسة، ثمة دائمًا خطاب مُعلن، وآخر مُضمر. ولعل الجانب الخفي من العمل السياسي هو الأشد تأثيرًا، ففيه تُصاغ القرارات المصيرية بعيدًا عن صخب الشعارات وضجيج الجماهير. والتسجيل الصوتي الأخير للرئيس الراحل جمال عبد الناصر – الذي لا يُعد تسريبًا، بل وثيقة ضمن أرشيف مؤسسة الرئاسة المصرية التي درجت على حفظ اللقاءات الرئاسية، كشأن نظيراتها المحترفة حول العالم – والذي دار بينه وبين العقيد الليبي معمر القذافي في أغسطس 1970، جاء كاشفًا للحقائق لا خائنًا للأمانة، واقعيًا لا تهوريًا، وعقلانيًا لا متخاذلًا.

هذا التسجيل يُنصف مصر، ويُعيد الاعتبار لدورها المحوري في الصراع العربي الإسرائيلي، بعيدًا عن المزايدات الحنجورية. فمصر وحدها خاضت حربها، واستردت أرضها من الكيان الإسرائيلي في نصر أكتوبر المجيد عام 1973، بينما اكتفى آخرون بإطلاق الشعارات الرنانة دون تحقيق أي نتائج ملموسة.
إن مصر، حين تعمل بصمت، تُعمِل فكرها بعمق. وحين تتخذ قراراتها، تنظر إلى المآلات لا إلى المكاسب الآنية. والقيادة المصرية اليوم تسير على ذات النهج: تنحاز إلى مصالحها العليا، وتتحرك بذكاء استراتيجي، وتُدير ملفاتها انطلاقًا من وعي كامل بتعقيدات المشهد العالمي. وهذا التسجيل يُعد انتصارًا لمصر الحاضر بقدر ما هو شهادة على حكمة الماضي، إذ يُثبت أن الرؤية التي تتبناها الدولة المصرية حاليًا في إدارة ملفاتها المختلفة – من القضية الفلسطينية إلى الأزمة السودانية وصولًا إلى ملف سد النهضة – ليست وليدة لحظة عابرة، بل امتداد لمنهج راسخ قوامه الفهم العميق للواقع وتحقيق المكاسب بالعقلانية لا بالعاطفة.

إن هذا التسجيل لا يُدين الزعيم عبد الناصر، بل يسمو به. فهو يؤكد أن الزعيم الذي استهل مسيرته بخطاب قومي مُفعم بالعاطفة، اختتم حياته السياسية بوعي ناضج يُدرك أن الحرب ليست مجرد شعارات، وأن المقاومة ليست منصة للهتاف، بل هي قرار استراتيجي محسوب، لا يُتخذ إلا باكتمال العدة والعتاد.

ففي لحظة تجلٍّ للحقيقة، أقرّ عبد الناصر بأن العرب آنذاك لم يكونوا يمتلكون القدرة العسكرية لمواجهة إسرائيل، وأن التحرير يتطلب استعدادًا حقيقيًا لا مجرد رفع الأصوات. وأوضح أن هدف مصر الأساسي كان استعادة سيناء، وأنها لم تكن “المكلف الحصري” بالقضية الفلسطينية، بل تعاملت مع كل ملف وفقًا لحسابات دقيقة ومستندة إلى الواقع.

إن ما قاله عبد الناصر في هذا التسجيل ليس خذلانًا لفلسطين، بل هو دفاع عن الحقائق التي كانت تحيط بالعالم العربي. إنه تسجيل يؤكد أن النوايا الحسنة وحدها لا تصنع نصرًا، وأن مصر – بما تملكه من خبرة، وجيش قوي، وعقل استراتيجي – كانت ولا تزال هي نقطة الارتكاز في المنطقة.

وهنا تبرز الرسالة الأهم: إلى القوى التي ترفع رايات “اليسار الثوري”، والجبهات التي ما زالت تتسمى بـ “القوميات” أو “العروبيات”، حان الوقت لإعادة التفكير بعمق. فقائدهم نفسه قد غيّر نظرته، فلماذا يصرون على الثبات؟ هل التمسك برأي ثبت فشله بطولة؟ أم أن البطولة الحقيقية تكمن في القدرة على الاعتراف بالخطأ، والمراجعة الذاتية، والتطور المستمر؟

خلاصة القول: تسجيل ناصر الأخير ليس صفحة تُطوى من التاريخ، بل هو درس حيّ يُقرأ بتدبر. ومن يرفض استيعاب دروسه، يختار أن يعيش في أوهام الماضي، بعيدًا عن حقائق الحاضر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى